جودت فخر الدين


الشاعر جودت فخر الدين

لا يَخْفى علينا جميعاً أنّ الناس قد تركوا الشعرَ يبتعدُ أكثرَ فأكثرَ في هامش حياتهم. وهذا الأمر يدفعُ المعنيين، من كُتّاب أو نُقّاد أو متابعين، إلى طرْح الأسئلة حول أزمة الشعر أو تراجعه. وغالباً ما يحتارُ هؤلاء إزاء الحلول أو التدابير التي يمكن أنْ تدعمَ الشعر. وقد يكون من هذا القبيل تخصيصُ يوم في السنة للاحتفال بالشعر، يُسمّى «يوم الشعر العالمي». لعلّ في ذلك ما يلفتُ الأنظارَ إلى مشكلات الشعر من جهة، وإلى أهمية أنْ يكونَ في الصدارة من اهتمامات البشر من جهة ثانية.
إنّ انزواء الشعر، وانحصار الاهتمام به في قلّة قليلة هنا أو هناك، وعزوف الناس عنه، لهي أمورٌ تدفع بالكثيرين إلى الكلام على تراجع الشعر عموماً وفي جميع بلدان العالم، المتقدّمة منها والمتخلّفة. يتكلّمون على تراجع الشعر، ويصعبُ عليهم تحديدُ المشكلات التي أدّتْ إليه. هل هي مشكلاتٌ ذاتية، تتلقُ بالشعر نفسه؟ أم هي مشكلاتٌ من خارج الشعر، تتأتى من الظروف العامة التي تكتنفُه؟
الكلام على تراجع الشعر أمرٌ شائك، يقودنا في اتجاهات شتّى، نحو مشكلات شديدة التعقيد. هل نتكلمُ على الشاعر ومشكلات النصّ الشعري؟ هل نتكلم على مشكلات القراءة وعلى المستويات الثقافية للقرّاء؟ هل نتكلّم على مكانة الشاعر في المجتمع، وعلى مكانة الشعر في الحياة العامة، وما يستتبعُ ذلك من اهتمام به أو إهمال له في مؤسسات التربية والتعليم وفي ما تعتمده من مناهج وبرامج؟ فوق هذا كلِّه، هل نفكِّرُ في ما يحدثُ من تغيُّراتٍ في المجالات الأخرى، لنرى كيف يتصدّى الشعرُ لها، أو ينطلقُ منها نحو رؤىً وتصوُّرات جديدة؟
الكلام على تراجع الشعر يستدعي إجابات عن هذه الأسئلة. ولا يجوز إطلاق الأحكام النهائية اعتماداً على ظاهرة انصراف الناس عن الشعر، أو تناقص قرّائه والمهتمّين به. فإقبال الناس على أمر معيَّن لا يكفي ـ في حدِّ ذاته ـ للحكْم بأنّ هذا الأمر جيِّدٌ أو جوهريّ. فكثيراً ما يُقْبِلُ الناسُ على أمور سطحية. ومثل هذا بات الإقبال وارداً جدّاً في أيامنا هذه، حيث السرعة والسهولة تتحكّمان بنواحي حياتنا المختلفة. والشعر هو من بين الظواهر التي تنكفئ إلى هامش حياتنا هذه، لأن تلقّيه لا يمكن أنْ يتمَّ بسرعة وسهولة، وإنما يتطلَّبُ نوعاً من التهيُّؤ، يقتضي غيرَ قليل من الاجتهاد والمعرفة والدأب، كما يقتضي في الوقت نفسه رهافةً في الحسِّ والتذوُّق. وهكذا يكون من التعسُّف الجزْمُ بأنّ الشعرَ في تراجع، اعتماداً على أساس واحد هو أنّ الذين يُقْبِلون عليه قِلّةٌ قليلة.

الانزواء

أنا شخصياً لا أميلُ إلى إطلاق حكْم جازم في هذه المسألة، مسألة تراجع الشعر. لكنني أميلُ إلى القول إنّ الشعرَ لا يُعَدُّ اليومَ من المصادر الأولى للدهشة في حياة البشر. وربما صحَّ القولُ إنّ الشعرَ معرَّضٌ للانزواء أكثر فأكثر إزاء ما يحدثُ من تطوُّرات هائلة في مجالات العِلْم المختلفة.
لقد وضعتْ إنجازاتُ العِلْم ، في النصف الثاني من القرن العشرين، حياةَ البشر على خطِّ المفاجآت المتلاحقة. أو بتعبير آخر، وضعتْها في سلسلة من التغيُّرات الكبيرة والمتسارعة. وما زالت هذه الإنجازات تتوالى وتتعاظم، لا تحدُّها أبحاثُ الفضاء من جهة، ولا الخريطةُ الجينيةُ من جهة ثانية. هكذا يمكن القول إنّ العِلْمَ طغى على الشعر من حيث القدرة على الإدهاش وإحداث المفاجآت، أو أنه ـ على الأقلّ ـ جعل مهمّةَ الشعر أكثرَ صعوبةً. فقد بات عليه من جهة أنْ يستوعبَ ما يجري، وهو كثيرٌ ومتسارع، وأنْ يذهبَ من جهة ثانية إلى أبعد مما يجري، توجُّساً وكشْفاً واستشرافاً.
والعِلْم من شأنه أنْ يجذبَ الناسَ إلى نتائجه. فليس لهم أنْ يفقهوا الكثيرَ من آلياته، أو بالأحرى من تقنياته التي تُوصِلُ إلى تلك النتائج. أكثر من ذلك، يمكن للناس ألا يفقهوا شيئاً من آليات العِلْم وتقنياته، وباستطاعتهم ـ في الوقت نفسه ـ أنْ يستفيدوا من نتائجه في حياتهم العملية، فيستعملوا الأجهزة التي يُنتجُها العِلْمُ ويضعُها في متناولهم. ثم إنهم قد ينتبهون إلى التغيُّرات التي تحصلُ في رؤاهم، وفي تصوُّراتهم وأفكارهم، نتيجةً للتطوُّر العلميّ. وذلك دون أنْ يكونوا على معرفة بتفاصيل هذا التطوُّر، ولا حتى بخطوطه العامة. وهذا كلُّهُ لا يحصلُ لهم ما يشبهُهُ إزاء الشعر. فالمرء لا يستطيع أنْ يتلقّى القصائد ويتفاعلَ معها ويستمتعَ بها لمجرّد أنه يرغبُ في ذلك، وإنما عليه في هذا السبيل أنْ يتمتَّعَ بإمكانات كثيرة يتمُّ تحصيلُها بالمتابعة وتجديد المعارف وصقْل الذائقة. أما إذا رغبَ في استعمال سيارة أو طائرة أو حاسوب... أو غيرها من الآلات، فيمكنهُ ذلك دون إلمام بمكوّناتها أو بكيفية عملها. بهذا المعنى، يمكن للعِلْم أنْ يجتذبَ الناسَ مباشرةً إلى نتائجه وابتكاراته، وأنْ يدْعوَهم تالياً إلى استهلاكها أو الاستفادة منها. الأمر الذي لا يتسنّى للشعر فعلُه.
تكلّمْنا على الشعر بعامة. وأما بالنسبة إلى الشعر العربيّ، فيمكننا القول إنّ المشكلةَ عندنا هي أكثر تشعُّباً وتعقيداً. وذلك أنّ ما يُتاحُ للشاعر العربيّ من إمكانات وآفاق لا يُقاسُ بما يُتاحُ لغيره اليوم، وخصوصاً في البلدان المتقدِّمة. فليس خافياً على أحد ما تُعانيه الأوضاعُ الثقافيةُ في البلدان المتخلّفة أو النامية من تخبُّط واستلاب، ما يُلْقي على الشعر مهمّات إضافية، ويجعلُ من تقدُّمه وتجدُّده أمراً في غاية الصعوبة.
وعلى الرغم مما تقدَّم، لا أريدُ القولَ إنّ الشعرَ في خطر، أو إنّ دوْرَهُ يمكنُ أنْ يسلبَهُ إياه العِلْمُ أو غيرُه. بل أريدُ القولَ إنّ علينا دائماً أنْ ننتظرَ الشعرَ من حيث لا ندري أو نتوقّع. وهو إنْ توارى، فإنما يتوارى كالأسرار، ولا يستدعي إطلاقَ حملة لدعْمه أو الأخذ بيده. فمن شأن الشعر أنْ يخرقَ أيَّ ظرْف مهما يكُنْ صعباً، وأنْ يتجاوزَ كلَّ منطق أو تحليل.