حديث الحب / جبران خليل جبران


في بيتٍ منفرد جلس فتى ينظر آناً من النافذة الى السماء المزدانة بالكواكب وآناً الى رسم صبية بين يديه..رسم ٌتنعكس خطوطه على وجهه فتظهر عليه أسرار هذا العالم وخفايا الأبدية صورة ملامح امرأة تناجيه جاعلةً عينيه آذاناً تفقه لغة الأرواح ِالسابحة في فضاء تلك الغرفه ومبتدعة من مجموعة قلوب أثارها الحب وأفعمها الشوق كذا مرت ساعه وكأنها دقيقةُ أحلام مستحبه أو عام من حياة البقاء ثم وضع الفتى الرسم أمامه و أخذ قلماً وورقه وكتب يا حبيبة نفسي:


ان الحقائق العظيمة فائقة الطبيعه لاتنتقل من بشريّ الى آخر بواسطة الكلام

البشري المتعارف لكنها تختار السكينه سبيلاً بين النفوس وأنا اشعر بأن سكينة هذا الليل تسعى بين نفسينا حاملة ارق من تلك التي يكتبها النسيم على وجه الماء تاليةً كتاب قلبينا على قلبينا ولكن.. مثلما شاء الله فجعل النفوس في أسر الأجسام شاء الحب فجعلني أسير الكلام..


يقولون ياحبيبتي ..ان الحب ينقلب بالعباد ناراً آكله..وأنا وجدت أن ساعة الفراق لم تقوَ على فصل ذاتينا المعنويتين..مثلما علمت عند أول لقاء أن نفسي تعرفك منذ دهور .. وأن أول نظرة اليك لم تكن أول نظرة يا حبيبتي ان تلك الساعة التي جمعت قلبينا المنفييّن عن العالم العلوي هي من ساعاتٍ قليلة تدعم اعتقادي بأزلية النفس وخلودها.. في مثل تلك الساعه تكشف الطبيعة القناع عن وجه عدلها المتناهي والمظنون به ظلماً..


هل تذكرين يا حبيبتي ذلك الروض ، حيث وقفنا وكلانا ناظر وجه حبيبه؟ وهل تعلمين أن نظراتك كانت تقول لي : ان محبتك لي لم تنبثق من الشفقة علي؟ تلك النظرات التي علمتتني أن أقول لذاتي وللعالمين: أن العطاء الذي يكون مصدره العدل لهو أعظم من الذي يبتديءمن الحسنة، وأن المحبة التي تبتدعها الظروف تشابه مياه المستنقعات.


أمامي يا حبيبتي حياة أريدها أن تكون عظيمة وجميله،حياة تؤاخي ذكر الانسان الآتي وتستدعي اعتباره ومحبته،حياة ابتدأت عندما لقيتك وأنا واثق بخلودها لاني مؤمن بكونك قادرة على اظهار القوة التي اودعني الله اياها متجسمة في أقوال وأعمال كبيره مثلما تستنبت الشمس أزهار الحقل ذات العرف الطيب، وكذا تظل محبتي لي وللأجيال ،وتبقى منزهةً عن الأنانيه لتعميمها، ومتعالية عن الابتذال لتخصيصها بك.


وقام الفتى ومشى بتمهل في تلك الغرفة، ثم نظر من النافذة ورأى القمر قد طلع من وراء الأفق وملأ الفضاء أشعةً لطيفة، فرجع وكتب في تلك الرساله: سامحيني يا حبيبتي فقد ناجيتك بضمير المخاطب وأنتِ نصفي الجميل الذي فقدته عندما خرجنا من يد الله في آن واحد ، سامحيني يا حبيبتي.