قصيدة علّمني حبّك-نزار قباني


 

علّمني حبّك أن أحزن

وأنا مُحتاج منذ عصور

لأمرأة تجعلني أحزن

لامرأة أبكي فوق ذراعيها

مثل العصفور

لأمرأة تجمع أجزائي

كشظايا البّلور المكسور

علّمني حبّك سيّدتي أسوأ عادات

علّمني أفتح فنجاني في اللّيلة آلاف المرّات

وأُجرّب طبّ العطّارين وأطرق باب العرّافات

علّمني أخرج من بيتي لأُمشّط أرصفة الطّرقات

وأطارد وجهك في الأمطار وفي أضواء السّيارات

أطارد ثوبك في أثواب المجهولات

أطارد طيفك

حتّى

حتّى

في أوراق الإعلانات

علّمني حبّك كيف أهيم على وجهي ساعات

بحثاً عن شعرٍ غجريٍّ تحسده كلّ الغجريّات

بحثاً عن وجهٍ، عن صوت، هو كلّ الأوجه والأصوات

أدخلني حبّك سيّدتي مدن الأحزان

وأنا من قبلك لم أدخل مدن الأحزان

لم أعرف أبداً أنّ الدّمع هو الإنسان

وأن الإنسان بلا حزنٍ ذكرى إنسان

علّمني حبّك

علّمني حبّك أن أتصرّف كالصّبيان

أن أرسم وجهك بالطّبشور على الحيطان

وعلى أشرعة الصّيادين، على الأجراس، على الصُّلبان

علّمني حبّك

كيف الحبّ يُغيّر خارطة الأزمان

علّمني أنّي حين أحبّ تكفّ الأرض عن الدّوران

علّمني حبّك أشياءً

ما كانت أبداً في الحسبان

فقرأت أقاصيص الأطفال، دخلت قصور ملوك الجان

وحلمت أن تتزوّجني بنت السّلطان

تلك العيناها أصفى من ماء الخلجان

وحلمت أن أخطفها مثل الفرسان

وحلمت بأنّي أُهديها أطواق اللّؤلؤ والمرجان

علّمني حبّك، يا سيّدتي، ما الهذيان

علّمني كيف يمرّ العمر ولا تأتي بنت السّلطان

علّمني حبّك كيف أحبّك في كلّ الأشياء

في الشّجر العاري، في الأوراق اليابسة الصّفراء

في الجوّ الماطر في الأنواء

في أصغر مقهىً نشرب فيه مساء

قهوتنا السّوداء

علّمني حبّك أن آوي

لفنادق ليس لها أسماء

ومقاهٍ ليس لها أسماء

علّمني حبّك كيف اللّيل يضخّم أحزان الغرباء

علّمني كيف أرى بيروت

امرأة تلبس كل مساء

علّمني كيف ينام الحزن

كغلام مقطوع القدمين

في طرق الرّوشة والحمراء

علّمني حبّك أن أحزن

وأنا محتاج منذ عصور

لامرأة تجعلني أحزن

لامرأة أبكي فوق ذراعيها

مثل العصفور

لامرأة تجمع أجزائي

كشظايا البلّور المكسور