حديقة فيلادلفيا


في الحديقةِ،

وسْطَ المدينةِ،

كان النهارُ يُشعشعُ مثلَ الفضيحةِ،

مسْترْخياً، حارقاً...

نحن جئنا لكي نتنزّهَ في الظلِّ،

كي نُوقِعَ الوقتَ في فخِّنا العائليِّ،

حفيدتُنا رقصتْ قرب حوض المياهِ،

ولم تكترثْ للعصافير حين غدتْ تسْتحمُّ...

عصافيرُ تدخلُ في الماءِ،

تُطْفئ أجنحةً من بريقٍ،

وتخرج من بعْدُ، تسبحُ في الضوءِ،

كي تستعيدَ البريقَ لترجعَ ثانيةً،

هكذا دونما كللٍ...

ربما نحن جئنا نراقبُ لهفتَنا وهْي تأنسُ للظلِّ،

ثم تطيرُ لمرأى العصافيرِ،

نسألُ أنفسَنا: ما الذي نبتغي ههنا في النهار الثقيلِ؟

وكيف أخذْنا نُحِسُّ بأن الحديقةَ طارتْ بلهفتنا؟

ما الذي راح يفجؤنا بين حينٍ وحينٍ؟

غصونُ الشجيراتِ لا تتحرّكُ،

لكنّ شيئاً خفيّاً يهزُّ سكينتَنا.

ربما هو في النفسِ محْضُ انتفاضتِها دونما سببٍ واضحٍ.

هكذا فجأةً خفقتْ بهجةٌ في المكانِ،

كما انتفضتْ عند حوض المياه عصافيرُ (بلَّلَها القطْرُ)

خفَّ النهارُ إلينا،

وراح يداعبُنا، بعدما كان يجثمُ مثلَ الفضيحةِ،

رحْنا نراقبُهُ من خلال الظلال التي احتبستْنا برفْقٍ،

هوى الوقتُ في فخِّنا العائليِّ،

غدا مثلَنا يتنزَّهُ،

لفَّ الحديقةَ غيمٌ رقيقٌ...

تظلُّ العصافير تختصرُ الماءَ والظلَّ والضوءَ،

تدخلُ في الماءِ، تخرجُ للشمسِ، تسبحُ في الضوءِ...

نحن هنالك... في الظلِّ، في الضوءِ، في الغيمِ،

خفَّ النهارُ ليأوي إلينا،

فضاءُ الحديقةِ يسمو بنا،

وحفيدتُنا رعشةٌ تتراقصُ بين الظلالْ.

2. قطار فيلادلفيا - واشنطن

قطارٌ يشقُّ بنا الليلَ،

ينثرُهُ قِطَعاً تتكاثفُ لاهثةً حول سِكّتِهِ،

كم سعى الليلُ خلْفَ القطارات كي لا تكونَ جهاتٌ،

كأنّ الخطوطَ على الأرض توغِرُ صدْرَ الليالي!

قطارٌ يشقُّ بنا الليلَ، يلهو بهِ...

بات ليلُ القطارات مثلَ الحنين إلى زمنٍ شاردٍ،

بات منتهَباً كالخرائبِ، رثاً كحافلةٍ أُهْمِلَتْ.

والقطاراتُ صارت تسيرُ إلى أمسِها،

ولأنفاقها ليلُها المتنكِّرُ دون سماءٍ،

ودون نجومٍ، ولو في خيال المسافرِ!

كنّا معاً في القطار الذي بات شيخَ القطارات، أقدمَها،

(زوجتي، وأنا، وابنُنا المتوجِّهُ نحو بداياتنا)

هو يمضي بنا،

نحن نمضي بهِ... معهُ.

غدُهُ غدُنا.

هو يمضي إلى غدهِ في قطارٍ يسيرُ إلى أمسِهِ.

نحن أمْسٌ له وغَدٌ.

والقطارُ يصيرُ بنا ومضةً في البعيدِ،

رؤىً تنضوي قِطَعُ الليلِ فيها كما ينضوي غيرُها:

أوّلُ الصُّبْحِ، خفْقُ الأماني، بريقُ البحيراتِ... أو غيرها.

هو يشبهُني.

هو أكثر من غيرهِ شبَهاً بي.

هو يُدْركُني في مسرّاتهِ.

ثم يُدْركُني في هواجسِهِ.

ربما هو يدْري، ونحن هنا في قطارٍ يشقُّ بنا الليلَ،

أنّي أراقبُ نفسي بهِ:

بتوجُّسِهِ، وابتساماتهِ، وحماستِهِ...

رحْتُ أحسبُ أني سلكْتُ الطريقَ التي هو يسْلكُها الآنَ،

ذاكرتي جعلتْني أراهُ كما كنتُ قبلَ عقودٍ.

أراهُ فأبصِرُني.

وأراني فأبصِرُهُ.

نحن نمضي إلى غدِنا

(زوجتي، وأنا، وابنُنا المتوجِّهُ نحو بداياتنا)

في قطارٍ يسيرُ إلى أمْسِهِ،

ناثراً قِطَعَ الليلِ لاهثةً حول سِكّتِهِ،

والنوافذُ تنظرُ حيناً إلينا،

وتنظرُ حيناً إلى شجرٍ راكضٍ في رؤانا.

 

(آب 2017)جودت فخر الدين |