د. إبراهيم السمسماني


الاحباط : قال صاحبي: سأروي لك هذه المرة حكاية طريفة تحمل طابعا كاريكاتوريا، علك تجد لها دلالات ومعان نفسية. قال : في حب الأطعمة استغرب شغفي بالسردين المعلب،فكلما دخلت دكانا او سوبر ماركت وجدتني اتوجه مباشرة الى ستاند المعلبات لاشتري أصنافا متعددة من علب السردين:مغربي ، تايلاندي،ياباني....

جربت كل انواع السردين ،ولَم اجد ذلك الطعم الذي ابحث عنه. استغربت الامر ،حاولت ان اجد تفسيرا.واخيرا عادت بي الذاكرة الى الطفولة المبكرة،تذكرت أني كنت اعشق علبة السردين ،كمايعشق الحبيب حبيبته.لكنها كانت صعبة المنال،فهي اميرة وانا من عامة الشعب.قلت: اراك تبالغ فهي ليست غالية الثمن.قال:معك حق،لكن قصر ذات اليد(كمايقال)جعل الحصول عليها مستحيلا.

لكن وبعد طول تفكير وجدت الحل،ان اجمع ثمن العلبة - الحلم.حرمت نفسي من ملذات كثيرة ولاشهر عديدة!!واخيرا جمعت المبلغ المطلوب،خمسة وثلاثون قرشا عدا ونقدا. أسرعت الى اقرب دكان ،اشتريتها،وكان اللقاء حميما،احتضنتها بعيداعن اعين الحاسدين،وخبأتها جانبا حتى يأتي المساء .لقاء الاحبة في الليل اكثر رومانسية،أتناولها على مهل في ضوء قنديل الكاز دون حاسد او رقيب. وضعتها في صحن واسع يزيدها هيبة ،على طاولة خشبية يتيمة في البيت الى جانب قنديل الكاز.ورحت أتأملها بشغف لاشبع ناظري اولا،للعيون أيضا متعة أيضا.وفجاة ودون سابق إنذار ولعله بسبب الارباك تعثرت بالطاولة، اهتزت، تأرجح القنديل وسقطت زجاجته الهشة في قلب الصحن،لا أقول تكسرت بل تشظت شظايا صغيرة جدا ،ملأت الصحن واختلطت بفروخ السردين. لا أستطيع ان آصف الصدمة وخيبة الأمل ،وقفت امام المنظر يائسا محبطا،حاولت ان أنقذ منها شيئا ،لكن عبثاواخيرا استسلمت الى قدري!!!

ها انا اليوم وبعد عشرات السنين احاول ان اجدها في دكان ما، لكن عبثا لم اجدها ولن اجدها.

قلت لصاحبي:حكايتك تشير الى إحباطات اكثر خطورة.انها حكايتنا جميعا بألوان واشكال مختلفة.لامهرب من إحباطات وحرمانات قسرية نواجهها في طفولتنا،نحملها في أعماقنا ،تتحول الى قوى قهرية تتحكم بحياتنا ومصائرنا.

الا يتحول الحرمان العاطفي من حنان الام الى قلق دائم يجعلنا نمضي العمر في بحث متواصل عن حب يائس لانجده في كل نساء العالم.الا تتحول الاذلالات التي نعيشها في طفولتنا الى مشاعر نقص ،الى عذابات تلاحقنا طوال حياتنا،نمضي العمر في الصراع للخلاص ،نبلغ اعلى المراتب لكن دون جدوى.انها قوى قهرية لاواعية،انها عفاريت نفسية تسكن لاوعينا(بحسب العالم النفسي يونغ).لكن هذه العفاريت لاتطرد بالتعاويذ ولا بالسحر والشعوذة بل فقط بالحفر في اعماق النفس لمزيد من النور حيث الظلمات الداكنة ،لمزيد من المعرفة لإدراك هذه الأعماق .المعرفة وحدها،معرفة الذات هي الخلاص.

د. إبراهيم السمسماني

أستاذ علم النفس الجامعة اللبنانية