التوأمان


التوأمان: الشَّرقُ وَالغربُ (البيادر)                    

ميخائيل نعيمة- بتصرف بعد ما قبل3                      
هو ذا الإنسان يهزأ بالنسر في جوِّه، وبالحوت في بحره، وبالأسد في عرينه. وهو يُمَنْطِقُ بصوته الأرض، ويحبس نور النهار في أسلاك يسلِّطها على الليل فتمحو ظلامه، ويجترح من العجائب أشكالاً وألوانًا في مختبراته العجيبة. ولا ينقصه – على حدِّ قول البسطاء – إلا أن يخلق إنسانًا نظيره، ثمَّ أن يغلب الموت. 

حقًّا إنه لتيار هائلٌ جارف تتعالى أمواجُه وتتدافع في كلِّ ناحية؛ وفي تدافعها صخبُ الزلازل وعتوِّ العواصف، مع شيء من بهجة الفصول، ورونق السماء، وسحر الفوز بالغنيمة، وجاذبية القوة الظافرة. فلا غرو إذا ما غمرت المعمورة وبهرت الأبصار. فهي بنت البصر، وللبصر الحقُّ أن يعتزَّ بها؛ فهو ما أنجبها إلا لينعم بمواهبها وخدماتها. 

3لاغرو أن يقف العالم – وفي جملته هذا الشرق – مشدوهًا تجاه مدنية الغرب المبصر، وأن يهلِّل لها ويكبِّر، وأن يغفر لها كلَّ زلاتها، ثمَّ أن يعقد عليها آمالاً أبعد بكثير من مدى سلطانها. فهي، على ما فيها من مرارة، غنية بالحلاوة التي لا يصعب على أيِّ إنسان تذوُّقُها، لأنها حلاوة يتذوَّقها الحسُّ. أما حلاوة المدنية القائمة على البصيرة فدون تذوُّقها شقُّ النفس وقهر الجسد. لذلك كانت الأولى أقرب إلى متناول الناس وأذواقهم من الثانية؛ ففيها – كما جاء في بعض الحكايات – "ما يُحَلِّي ويُسلِّي ويُعشِّي الحمار". والحكاية – إذا كنتم تجهلونها – هي حكاية مَكارٍ معه حمارٌ بلغ عند المساء فندقًا في الطريق فعزم أن يبيت ليلته فيه. ثم طلب إلى صاحب الفندق أن "يأتيه بشيء رخيص يحلِّي ويسلِّي ويعشِّي الحمار". فما كان من صاحب الفندق إلا أن جاءه ببطيخة؛ فتحلَّى بلبِّها وتسلَّى ببذرها وعشَّى حماره من قشرها. 

ومدنية البصر للجماهير كتلك البطيخة لذاك المكاري. ففيها ما يدغدغ الذوق، ويسلِّي العين والأذن، ويلهي الإنسان عن نفسه؛ مثلما فيها غذاء – أو بعض الغذاء – للبهيمة في الإنسان. أما القلب فتتركه فارغًا، وأما الروح فتعلِّقه على مشنقة الشك والحيرة والإبهام. إلا أنها ذات قيمة من غير شكٍّ. فليس من الحكمة نبذُها، ومن الجهل المطبق التفتيشُ فيها عن التغذية الكاملة للإنسان الطامح إلى الكمال. 

ذاك، إذا ما أخذتموها من حيث هي تريد أن تؤخذ، أي من حيث محاسنُها لا غير. أما إذا تفحصَّتم مساوئها فلن تجدوا مدنية قبلها بلغت ما بلغتْه من التكالب والتباغض والقساوة، مع الكثير من التبجح بالعكس. وإما عجبتم لمشهد غريب فاعجبوا معي لهذا الشرق – وقد أهدى إلى العالم المحبة والقناعة والتضامن والتآخي – يقف اليوم على مفرق طريق البصيرة والبصر كسير القلب، ذليل الجفن، ضامر الصدر والبطن، ويمينُه الفارغة ممدودة نحو الغرب، وفي يسراه قائمة بأسفاره المقدسة وأسماء أنبيائه. ثم اسمعوه يستعطي بصوت متهدِّج فيه الانسحاق، وفيه المسكنة والاندحار. وماذا عساه يستعطي؟ إنه ليستعطي طيارات ودبابات ومدمرات ومدافع وقنابل. وإني لأسمعه يقول: 

"من يقايضني قنبلة محرقة بآية منزلة؟ وطيارة أو دبابة بسِفْر مقدس؟ بل من يقايضني مخترِعًا واحدًا بعشرة أنبياء؟" 

ما هذا، ما هذا؟ أبصيرة تستجدي بصرًا؟ أشمس تستغيث بذبالة؟ 

أجل، إن بصرًا نشيطًا لخير من بصيرة كليلة. وبصيرة الشرق حلَّ بها كلالٌ منذ أن بلغتْ من مدِّها أقصاه. وإن ذبالة تشتعل لخير من شمس اعتراها الكسوف. وشمس الشرق حلَّ بها كسوفٌ منذ أن انكفأ الشرق على ذاته في جَزْرِه الطويل. إلا أن الكلال يزول بالراحة؛ والكسوف، من بعد أن يبلغ حدَّه، ينجلي عن شمس كلُّها نار وكلُّها نور. ومن ثمَّ فالحياة – وهي أمُّ التوأمين بالسواء، أمُّ البصيرة والبصر، أمُّ الشرق والغرب – ما دَرَجَتْ بالشرق إلى أسمى ذراه حتى عادت فدرجت بالغرب إلى أسمى ذراه. والذروتان ستلتقيان حتمًا في ذروة واحدة هي ذروة الإنسان الموحَّد والمالك زمام نفسه وزمام الأرض والسماء. 

أما زمان الملتقى فلن ينقاد تحديدُ قربه وبعده إلى الذين يقيسون الزمان بالساعات والسنين، والفضاء بالأذرع والفراسخ. فهو قريب – وقريب جدًّا – لمن في بصيرتهم أبصار، وفي بصرهم بصائر، وبعيد – وبعيد جدًّا – لمن بصائرهم كفيفة وعلى أبصارهم غشاوات. 

وإلى أن يكون الملتقى لا بدَّ للشرق من وثبة بعد هجعة، وللغرب من هجعة بعد وثبة؛ بل لا بدَّ لذاك وهذا من وثبات بعدها هجعات. 

وإني لأرجو لهذا الشرق أن تكون وثبتُه القادمة وثبةً تجلو الغشاوة عن بصيرته وعن بصر أخيه الغرب؛ وثبةً فيها القوة دون البطش، والمعرفة دون الادِّعاء، والرفعة دون الكبرياء، والقناعة دون الخنوع، والإيمان دون التعصُّب، والسلام دون الانتقام، والنور دون النار، والسكينة دون الاستكانة – وكيف لمن سيم الذلَّ دهرًا أن يسوم سواه الذلَّ يومًا؟ ولمن ذاق طعم الفقر أن يشتهيه لغيره؟ لا يشبع من أجاع جاره؛ ولا يعلو من نَعلُه على عنق قريبه. 

مادامت البشرية على هذه الأرض دام شرقُها في حاجة إلى غربها، وغربُها في حاجة إلى شرقها، وكان ما يرفع الواحد يرفع الآخر، وما يحطُّ هذا يحط ذاك. فما طار نسرٌ بجناح واحد ولا صفقتْ يمينٌ بغير يسار. 

شرقٌ يقيم الأهداف وغربٌ يمهد السبيل إليها 
لقد كان من هجعة الشرق بعد يقظته، ومن يقظة الغرب بعد هجعته، أن تبادر إلى أذهان كثير من الناس أن الشرق قد شاخ وهرم، وأن الغرب لا يزال في ميعة شبابه وعنفوان قوته. فأصبح من شاء الكلام عن الاثنين لا يجد ما ينعت به الشرق أفضل من الانحطاط، والجمود، والخنوع، والتفكُّك، والتحجُّر، والكسل، وفقر الجيب والقلب، وعمى البصيرة والبصر؛ ولا ما ينعت به الغرب أقل من النور، والعلم، والإقدام، والرقيِّ، والحرية، والعدالة، والبأس، والشجاعة، والمروءة؛ فكأن الشرق بؤرةٌ من الأوبئة القتَّالة، والغرب فوَّارة من البركات المحيية. أما الحقيقة فهي أن كلا التوأمين – الشرق والغرب – يجدِّد شبابه كالنسر. ولن ينفكَّا يهجع الواحد فينهض الآخر، وينكمش هذا فينبسط ذاك، حتى يبلغا بالإنسانية إلى حيث لا هجوع بعد نهوض، ولا انكماش بعد انبساط، بل وجود بغير شطوط، وحياة بغير عواصف. 

والغريب أن أبناء هذا الشرق كانوا – وما برح الكثير منهم حتى اليوم – أفظع تنكيلاً بشرقهم من أبناء الغرب، وأشد إعجابًا بالغرب من رجال الغرب. فقد تسمعون في الغرب أصواتًا تُجاهِر بالتواء سبله، وإفلاس فكره، وفقر روحه بالنسبة إلى الشرق؛ ولا تكادون تسمعون في الشرق صوتًا يشيد بما فيه من كنوز القلب والفكر والخيال. وأغرب من ذاك أن هذه الكنوز عينها هي في نظر دعاة الغرب في الشرق السبب الأول والأخير في ما يدعونه انحطاطًا وما هو بالانحطاط، وجمودًا وما هو بالجمود، واحتضارًا وما هو بالاحتضار. إنْ هو غير هدأة بين عاصفتين، وفجوة بين موجتين