بأيدينا قتلناك ياعراق


كتبت : جورجيا واشنطن

 

رغم خطوط الأجل... وبالرغم من زعامة المتاهة... ينغرز لك طيف أبدي في رحابات الصدور... مجللاً بأحلام الورود اليانعة... وذروة العناق لهامات المستحيل... فنطلقها... رصاصاتهم... رصاصاتنا... إلى قلبك يا وطن...! قتلناك... ولازلنا نقتلك... فهل نكفر لأنفسنا هذا الذنب؟ ذنب ضياعك وبيعك في سوق الأوجاع... هل لنا أن نزيح خطوط الأجل عن مضاجعك... أم نحن نترهل فقط في تقديسنا للذات، ونمجد الدخلاء... نُقبل رقابهم الحمراء المشبعة بدمائنا... وإرثنا الدامي... وأنت المسجى على تابوت الضياع منذ بدء الخليقة... تتدحرج في قرف نحو هاوية المستقر الأخير... لكنك بقيت رغم التداعيات، وإسهابات فن التقويل، ذلك الوشم الرابض في جسد الوجود... المنقوش على قرميد الأزل. أحببناك... فأبتعدنا سعيا وراء الفردوس التائه... ثم تداعينا لك بالأماني، فقفزنا إلى آخر حدود الأرض ابتعادا... نحن نهرب... ودائما نهرب... من الحقائق... ونسيقك إلى بئر الماس المزيف... في كتاباتنا، وقصائدنا, وصحفنا وبريقها ولمعانها الخادع... جاءتك وفود الجراد... فتركناك تصارع لسعاتها وعضاتها... دون أن نجد تبرير لنقضنا لذلك الوعد الذي قطعناه على أنفسنا بأن نكون لك... ولم نكن لك أبداً... فهز شباكك وانتفض يا وطني المعتقل... طأطأنا الرؤوس إكراما لك، ونحن نشمخ بأنفسنا ولنا... زيفنا حقائق التأريخ بإدعاء التجدد ...فضاعت ألف ليلة وليلة... وأصبحت بغداد مرتعاً للبغاة والبغايا... حلم بغداد المدورة... انكمش مع رهط الألم المستديم... حملنا مخلفات بساط الريح وعطر الفانوس السحري قربانا لقاتلك وقاتلنا... فعجبا زمن الأهواء. شردناك في العواصم والدول... مزقناك بنقوش ذاكرتنا اللعينة الخرفة... هربناك... نفطاً نحاسا, ماء هواءً, تراباً تراثاً... زورناك مالاً وأوراق سفر... قايضنا بك لإشباع ذاتنا وعطشه المستديم للتعالي الفارغ... فنسقطك من قاموس العالم وخريطة الأرض... فكفاك وأنهض يا وطني الجريح. أرسينا التوابيت سدا بوجه الآتين... فغرقنا في موج عبثنا الدامي... فكانت خسارات تلو الخسارات إلى حد جزأنا زمنها... فوجدناه دهرا يحتاج إلى موازين ومعاهدات ومفاوضات وهذه عهدتنا التي ارغمتنا بل أرغمناها علينا... مفاوضات، معاهدات، عقود... وفي كل إمضاء نستغني عن شيء فيك... إلى حد نفيك من ظل السماء هذه... فيا للحجر الثقيل الذي يطأ الرأس... ويا للعري الفاضح... ويا لاتساع مداك يا وطن... تصر على دفئنا ونحن نُسير قوافل الثلج إلى مساربك لماذا..؟ لماذا تعظم أمانينا ونحن ندوس على التاريخ بحوافرنا المفقعة..؟ لماذا تفيء لنا بظلك الحامي... ونحن نعريك من وجه الأرض... لماذا..؟ أشجارنا تحترق من رصاصنا... وهول أخطائنا... ومن النار الآتية من خلف البحار... ركام

 

حقد ممتد منذ الوجود... وغيض منحدر... منذ سلالات السطوة... شوارعك تئن تحت أزيز الرصاص وتحت سرفات الدبابات للغزاة الجدد... أنهارك تحمل أمواجها دماً ونزيفاً يتدفق.. أرصفتك رُصت من جماجم الفقراء وغيرهم فلا... منازلك تحشر أنفاسها حشراً...بعد أن ضاق أفق المكان... وهمسات العراف البعيد تتردد في زوايا المعبد (أمريكا وراء الباب... وراء الباب أمريكا) ولم نعِ ذلك.... أدمينا العمر بحثا عن الخلود... ونحن نتكئ على رؤوس أجسادنا المنكسة... نفي كلكامش وفني مبدأ خلوده... مجذر فينا عبئاً ثقيلاً عله لم يكنه... وأنجب لنا نبوخذ نصر الفرسان الأقوياء الذين تتهاوى رؤوسهم بغمزة جارية..! فشكراً... والمستعصم بالله فرّ بتاجه العريق لينتهي ممزقاً تحت حوافر الخيل وليس بضربة سيف مدافعاً... فيالماضينا... هذه هي ذاكرتنا... خزين من الألم... والأوهام, والقيود, والحروب, والدم, والترميل واليتم... فإلى متى؟ تقيأنا إذاً يا وطن الابتلاء... انفضنا داخل حجرك الصافي. انفثنا إلى بوادر الخيبة كي نعلم بمرارة الشرود... نتعرى في عمق الظلمة لإخفاء خجلنا... فتفضحنا أفعالنا البائسة. ندفن بقايا الصدق في حقائب المتاجرات ومضاربات أسواق الصرف... وفي مافيات التهريب والتخزين... نحيا على هوامش ظل في فنادق الدرجة الأخيرة في عواصم الغرب... بعناك بثمن بخس من أجل معرفة مدى خيبتنا... فتنجح هيّ... ونسقط نحن... في اكتشاف عجزنا المستديم... فنعزف سمفونية الحزن الأبدي... على بواكير الأطلال... البقايا الممتدة منذ آشور الأول وحتى آخر الأزمنة... هذه هيّ مأساتك...مأساتنا... وهذا هو ضياعك...ضياعنا...إلا أن شارة النصر... ستبقى نفساً يفجر الحياة... أمام كل هذا التيه... وستشمخ يا وطني على كل أمم الأرض... وعلى كل من باعك ويبعك... وعلى كل من أسقطك... ويسقطك... وعلى كل من خانك ويخونك... وستبقى تاجاً فوق رؤوس الشعوب المتحررة... وستبقى أبداً النبض الصادق في قلب هذا العالم المتناقض...فسيبقى النخيل... ويبقى الفرات... ودجلة يبقى عراقي يحمل عرين الحياة