العصافير لا تطلب تأشيرة دخول


هذه الكلمات التي ألقيتها خلال رحلاتي الشعرية في العالم العربي هي الافتتاحيات التي سبقت دخولي لحظة الشعر. وهي كما أتصور الباب الذي لا بد من اجتيازه للوصول الى القسم الداخلي في قصر الشعر. وبتعبير اخر انها الدوزنات الموسيقية الاولى التي تسبق دخول المغني وانفتاح الستارة... ولا ادري لماذا كنت أتصور انه لا يجوز اقتحام الغرفة التي تنام فيها القصيدة.. قبل طرق الباب او الاستئذان .. او التأكد من ان القصيدة في حالة تسمح لها باستقبالها.. فتحضير الجمهور لاستقبال الشعر هو شئ أساسي وهو يشبه الى حد بعيد تحضير طفل لدخول المدرسة لليوم الاول.. او تحضير الارض الزراعية لاستقبال البذور او تحضير الممثلة المسرحية نفسها قبل مواجهة الأضواء .. ربما كان هذا الموقف طفوليا وعاطفيا ولا مبرر له ولكن قناعاتي في الخمسينات والستينات كانت تفرض علي ان اكتب مقدمات القصائد التي سأقرؤها في الأمسية الشعرية قبل تلاوة القصائد.. كنت في تلك الأيام مؤمنا بالدوزنة الشعرية.. ومهما تكن وجهة نظركم فإن هذه المقدمات لم تكن مجرد إيقاعات موسيقية او لعبة مهارات لغوية ولا كانت حديثاً في المطلق وإنما كانت حديثاً في الشعر والحب والسياسة والحرية والديموقراطية والثورة وفي كل شوؤن الحياة العربية وهموم الانسان العربي لذلك فإن نشرها اليوم لا يعتبر عملا عبثيا او استعراضيا وإنما هو عمل يحمل كل معاني المسؤولية والالتزام الشعري والقومي.. هذه المقدمات قرئت على امتداد الخريطة العربية من البصرة الى وهران ومن الشارقة الى طنجة ومن دمشق الى قرطاج وفاس ومكناس ومن بيروت الى رأس الخيمة.. رحلة طويلة.. طويلة.. كان الشعر فيها ملك الملوك.. وكانت الكلمات تدخل الى المدن العربية وهي أميرة.. وتخرج وهي أميرة .. وخلال هذه الرحلات الشعرية التي نشطت بها الوطن العربي من الشرق الى الغرب ومن الشمال الى الجنوب اكتشفت ان الكلمة هي صاحبة السلطة الحقيقية وهي الحاكمة بأمرها وهي المليكة التي لا يمكن لأحد ان يخلعها عن العرش. كنا اكتشفت ان الكلمة كالمرأة اذا صمتت ان تنقل الجبال من مكانها .. والبحار من مكانها.. والحكومات من مكانها.. وتعيد كتابة التاريخ ورسم الكرة الأرضية .. صحيح ان بعض الحكام يجد في الكلمة منافسته و( ضرته) وصحيح ان بعضهم يقص شعرها.. او يقص لسانها.. او يفرض عليها ان تلبس الحجاب حتى لا تثير الناس او تبهرهم .. وصحيح ان بعضهم يريد من الكلمة ان تكون جاريته ..  وعشيقته.. وشريكته في الفراش.. لا شريكته في الحكم او في الحياة. وهو من اجل ذلك مستعد ان يعطيها كل ما في بيت مال المؤمنين من ذهب.. وفضة.. وحجارة كريمة.. وصحيح ان بعض الحكام يسجن الكلمة في سجن النساء.. ويضع في قدميها الحديد.. ولا يسمح لها بتدخين سيجارة او بقراءة جريدة او بمطالعة كتاب او حتى باستعمال قلم رصاص لكتابة وصيتها.. ولكن برغم كل المقومات الأرضية وبرغم كل الرادارات وشبكات الصواريخ التي تغطي السماوات العربية.. فإن الكلمات ستبقى مستمرة في طيرانها رغم كثافة النيران.. ولن تستطيع اي سلطة ان تمنع الكلمات من الهبوط في اي مطار عربي تختاره.. لان العصافير لا تطلب تأشيرة دخول.. 

نزار قباني-