الشاعر ايليا أبو ماضي، ومراة الغرب


  
جان دايه 09/02/2007
 
 

لا بدّ من كلمتين حول سيرته ونثره لأن الدقة كانت تعوز الدارسين

في ذكرى مرور خمسين عاماً على رحيل الشاعر ايليا أبو ماضي، ليس اسهل من اعتمار قبعة اساتذة الطبخ في الفضائيات واتباع موضة نسخ ما قيل عن شعره وسيرته، مع رشّة خفيفة من الفلفل والبهار لتمويه بصمات النسّاخ. لكن الاضاءة على الجانب شبه المجهول في إنتاج أبو ماضي، أي النثر، اضافة الى اعادة النظر في بعض ما قيل عن سيرته، ستكونان محور هذه المقالة في يوبيله الذهبي، لأنهما مبرر كل كلمة جديدة تضاف الى سيل الدراسات والمقالات التي انهمرت على شعره وشخصه. قبل قراءة ما يتيسر من نثر أبو ماضي، لا بد من كلمتين حول سيرته، وخصوصاً ان دارسيه لم يكونوا دقيقين في تحديد بعض محطات حياته.

ولد أبو ماضي في المحيدثة - بكفيا في 8 نيسان 1888. ثمة مراجع تفيد ان ولادته تمت في 21 أيار 1890. لكن تاريخ سفره من لبنان الى الاسكندرية عام 1901 للعمل في متجر خاله، اضافة الى إصداره باكورة دواوينه "تذكار الماضي" عام 1910، يعززان الاستنتاج أنه مولود في 1888، إذ لا يعقل أن يهاجر طفل من قرية لبنانية ليعمل في مدينة مصرية وهو في الحادية عشرة، ناهيك بإصداره ديواناً وهو في الحادية والعشرين. على ذكر الديوان، فإن أبو ماضي نشر معظم قصائده في بعض الصحف الصادرة في الاسكندرية والقاهرة، منها "العلم" و"الاكسبرس".

وحشر الباحثون اسم مجلة "الزهور" الادبية التي أصدرها أنطون الجميّل وأمين تقي الدين في القاهرة، في لائحة الدوريات التي نشر فيها أبو ماضي قصائده خلال اقامته في الاسكندرية، من غير أن يكحّلوا عيونهم بصفحات أعدادها. ولو فعلوا ذلك، لتبيّن لهم ان قصيدة "لكن مصراً" التي دشّن بها مساهماته القليلة في "الزهور" بعث بها من الولايات المتحدة بعد عام من هجرته اليها.
استقر أبو ماضي في سنسيناتي أوهايو ليساعد أخاه مراد في العمل التجاري. في المناسبة، كان مراد قدوة لإيليا في الكتابة والتجارة، لكن حتى عام 1917 حين انتقل من أوهايو الى نيويورك، ومن التجارة الى الصحافة ليعمل نائباً لرئيس تحرير جريدة "مرآة الغرب". هنا، أصاب أبو ماضي عصفورين جميلين بحجر واحد. فهو، من جهة، طلّق التجارة بالثلاث لأنها تتناقض تماماً مع "النظم والنثر" على حد تعبيره، متبعاً خطى العديد من الشعراء الخلاّقين، من أمثال الأخطل الصغير الذي اصدر جريدة "البرق"، وأمين نخلة مالك جريدة "الشعب" ورئيس تحريرها. ومن جهة أخرى، "اضطرته" الصحافة الى خوض غمار النثر أسوة، أيضاً، بجلّ الشعراء كالياس أبو شبكة وسعيد عقل. في المناسبة، فإن نثر الشعراء، ومنهم أبو ماضي، لا يقل روعة عن شعرهم.
ومن ايجابيات الصحافة بالنسبة الى ابي ماضي، انها كانت أحد اسباب طلاقه للعزوبية. ذلك ان سعيدة الحظ، دورا، هي ابنة صاحب "مرآة الغرب" ورئيس تحريرها نجيب دياب. وكان له قرص في عرس "الرابطة القلمية"، على تأكيد أحد أركانها عبد المسيح حداد صاحب جريدة "السائح". لكن عضويته في الرابطة لم تحصل عام 1920 كما ينوّه دارسوه، بل عام 1916. ذلك ان الرابطة لم ترَ النور عام 1920 كما يوحي ميخائيل نعيمه في كتابه "سبعون"، بل عام 1916، على ما تؤكد مقالات فرسانها وقصائدهم، ونعيمه لم يكن منهم. لكن انخراط جبران والريحاني والآخرين في العمل السياسي عبر "لجنة تحرير سوريا وجبل لبنان" جمّد نشاط الرابطة حتى عام 1920. وهي حقيقة تأريخية قد أدخل في تفاصيلها الموثقة لمناسبة تأسيس الرابطة بعد أشهر قليلة. كذلك، اشترك أبو ماضي في تأسيس لجنة التحرير، وكان مسؤولاً في هيئتها الادارية.
في 15 نيسان 1919، دخل أبو ماضي نادي أصحاب الصحف، فأصدر العدد الاول من مجلته "السمير". وبخلاف كل الشعراء "الزملاء"، احترف الشاعر أبو ماضي العمل الصحافي الى درجة انه حوّل مجلته في 2 تشرين الثاني 1936 الى جريدة يومية. بالطبع، جاء احترافه للصحافة على حساب خلقه الشعري، وخدمة لإنتاجه النثري. وبقي ابو ماضي ممتطياً حصان الهواية الشعرية والاحتراف الصحافي حتى 13 تشرين الثاني 1957 حين توقف قلبه عن الخفقان اثر نوبة قلبية.
نصل الى بيت القصيد النثري إذا صح التعبير. كانت "مرآة الغرب" و"السمير" البوابة العريضة التي دخل منها أبو ماضي الى احتراف الكتابة النثرية. لكن إنتاجه قبل احترافه الصحافة لم يخلُ من بعض المقالات. على سبيل المثال، فقد نشر في "مرآة الغرب" بتاريخ 22 تموز 1913 مقالة سياسية عنوانها "أعداء الاصلاح" حدّد في مستهلها هؤلاء الاعداء بأنهم "جماعة الغوغاء الذين كلما ارتفع صوت من جانب الحق عملوا على إسكاته. يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله الا ان يتم نوره ولو كره المنافقون. هم الذين لا يطيب لهم عيش الا اذا ابصروا هذه الأمة أحزاباً لا نظام لها. في سوريا قسمّوها الى مسلم ومسيحي. وهنا في المهجر الى ماروني وأرثوذكسي". وانتقل الكاتب من التعميم الى التخصيص، فقال: "عقد المؤتمر العربي في باريس فتهللت وجوه اليائسين بنور الرجاء. أما أعداء الاصلاح والمصلحين فإنهم ظلوا ساكتين سكوت الذين لا شأن لهم كأنما هم غرباء عن هذه الأمة، وكأن القائمين به صينيون. وسمعوا بالدعوة الى عقد مؤتمر في نيويورك، فانقلبوا يقبّحونه في عيون الشعب كأنما هو هاوية فيها حيّات وعقارب". وتساءل أبو ماضي في مقالة ثانية نشرتها "المرآة" في 29 تموز 1913 مخاطباً أعداء الاصلاح: "أتحسبون إصلاح الشعوب وإسعاد البلاد رسالة أم مقالة أم طبخة مجدرة تبتدئ وتنتهي في ساعة"؟

قبل متابعة بعض خطب الناثر أبو ماضي ومقالاته، لا بأس بالتنويه بأن الكاتب يغمز من قناة نعوم مكرزل صاحب جريدة "الهدى" ورئيس "حزب النهضة اللبنانية" الذي عارض بشدة عقد المؤتمر النيويوركي الذي دعا اليه صاحب "المرآة" نجيب دياب وعدد من الأدباء والصحافيين أمثال جبران. ناهيك بأن مكرزل اشتهر بنهجه السياسي المذهبي، كما هو بيّن من أعداد "الهدى" في تلك الحقبة.
كان أبو ماضي نائباً لرئيس التحرير حين قرّر القيام بالمراسلة، وهو قرار لا يتخذه عادةً الصحافيون الطموحون من أمثاله، لأن المراسل أدنى رتبة من نيابة رئاسة التحرير. فهل كان في رأسه موّال يريد إنشاده مما يمكن اعتباره غاية الغايات لديه؟ أجل! والموال يتخطى تدبيج المقالات بدلاً من طبخها، الى الانتقال من نائب رئيس للتحرير الى رئاسة التحرير، ومن صهر لمالك صحيفة الى الانتماء الى نادي أصحاب الصحف. بقليل من الخبث، يمكن الاستناج ان تجواله في ديترويت وغيرها من المناطق التي تقطنها جاليات لبنانية وسورية وفلسطينية، استهدف معرفة عدد القراء والمشتركين في حال إصداره "السمير". وثمة دليلان على ذلك، أولهما انه استقال من "مرآة الغرب" بعد أقل من عام من مباشرته مهمته الجديدة، والثاني إصداره لمجلته في ربيع 1929.

صدرت "السمير" نصف شهرية، فكانت مناسبة للناثر أبو ماضي كي يهتم بمقالاته، وبخاصة الافتتاحيات، بالقدر نفسه الذي اهتم من قبل بشعره. ليس من المبالغة القول، ان معظم افتتاحياته بدءاً من الباكورة، قطع أدبية متميزة، تجمع بين الأدب والفلسفة والسياسة. في افتتاحية العدد الاول الصادر بتاريخ 15 نيسان 1929، نقرأ العبارات الآتية: "قالت النفس: اعتزل. وقال الرفاق لا تعتزل. وللنفس صولتها النافذة. وللأصحاب دالّتهم التي لا تردّ... ثمانية شهور لم يتحرك فيها هذا القلم بنثر ولا نظم. وكأنما نفسي كانت هاجعة كالروض في الشتاء، لا طائر يصدح، ولا زهرة تنفح، حتى يجيء الربيع، فتسترجع الارض زينتها وحلاها، ثمانية شهور كانت كل لحظة منها كأنها ثمانية شهور... تلك هجعة لم تكن باختياري، ولكنها جاءت في وقتها وكانت نافعة. فلولاها لم يتسع أمامي المجال للتفكير في إصدار هذه المجلة... قد رجعت الى حومة الصحافة لأني أحسب كل يوم أنفقه في غير خدمة قومي وبلادي ولغتي ليس من عمري، بل أنا اعتبر الفناء في أمتي وجوداً، والوجود في غير أمتي فناء". وكرّت السبّحة، في 15 حزيران 1929، وتحت عنوان "نبي في غير وطنه" كتب أبو ماضي في الافتتاحية عن العالم اللبناني حسن كامل الصباح، الذي هو "مخترع قليل النظراء حتى في الوسط الاميركي". أما لماذا بقي مغموراً حتى كتابة الافتتاحية فلأنه "شرقي. وهذا يبرهن لنا فساد القول الشائع من ان العلم لا وطن له".

بعد وفاة جبران كتب أبو ماضي عنه أكثر من مرة. قال في عدد 15 نيسان 1931 ان جبران الذي مات "كان أدبه إما دمعة تتألق فيها ابتسامة أو ابتسامة تترقرق فيها دمعة... نقول (مات) جرياً على العادة المصطلح عليها. اما الحقيقة فهي ان موت رجل كجبران ولادة". وفي "تقدمة" العدد الخاص بجبران والصادر في أول ايار 1931 قال أبو ماضي: "الى الشاعر الذي كان يلمح الفجر في حواشي الليل الداجي والربيع في الشتاء القاحل العاري... الى روح جبران ترفع "السمير" هذا العدد. وهذا أقل ما تكافئ به أديباً نسيج وحده كجبران كان الخط الذي يلتقي عنده الادبان الشرقي والغربي".

وتحت عنوان "الإله الثاني" كتب أبو ماضي افتتاحية لعدد أول حزيران 1931، كأنها برسم النشر في دورية تصدر في أول شباط 2007. انتقد الاديب الزميل في هذه الافتتاحية الاميركيين الذين "اذا شادوا بناية فلا يقولون انها جميلة أو شاهقة الا بعد أن يقولوا انها كلفت كذا وكذا من الدولارات. واذا عرضوا صورة فنية فلا يذكرون قيمتها الفنية الا بعد ان يأتوا على قيمتها المادية كأن يقولوا انها بيعت بألوف الدولارات، وانها كانت في حوزة الغني المشهور فلان، لذلك نقول ان المدنية الاميركية، على ضخامتها وفخامتها، يعوزها قليل من الطمأنينة الروحية التي تغمر الشرق، كما يعوز الشرقيين قليل من النشاط في طلب المحسوسات والمرئيات الذي يملك على الاميركي مشاعره".

كان أبو ماضي عازماً على تحويل "السمير" الى جريدة يومية، لكن وفاة "عمه" اضطرته الى تجميد إصدار مجلته ليتولى رئاسة تحرير "مرآة الغرب" لبضعة أشهر. خلال ذلك، حاول شراء الجريدة العريقة، لكن حماته افشلت محاولته، فشرب حليب السباع، وحوّل "السمير" من نصف شهرية الى يومية بدءاً من 2 تشرين الثاني 1936. وكالعادة، نجح في مشروعه الجديد، ليس فقط عبر تأمينه الاشتراكات والاعلانات التي حالت دون احتجابها، كما كانت حال معظم دوريات المهجر الاميركي الشمالي، بل ايضاً تحقيق التوازن بين الادب والسياسة. لكن نهج أبو ماضي في افتتاحياته ومقالاته "العقائدية"، المتميّز بالصلابة، اضافة الى سياسة جريدته العروبية الفلسطينية غير الخالية من النكهة الارثوذكسية، قد دفعاه الى الخوض في معارك اعلامية مع بعض اصحاب الدوريات الاخرى وبخاصة نعوم مكرزل صاحب "الهدى". ولحسن حظ القراء، تخطت المعارك شؤون السياسة وشجونها، لتشمل النقد الادبي والشعر. وعلى سبيل المثال، فإن أبا ماضي دخل على خط المعركة التي دارت بين الشاعر القروي والناقد هاني بعل في الصحف البرازيلية والارجنتينية. قرأ هاني بعل في جريدة "سورية الجديدة" بتاريخ 8 آذار 1941 الابيات الآتية للشاعر القروي المنشورة في ديوانه "الاعاصير":

غرست بلبنان ورد الأمل       فقل للبرازيل ان تمحلا

وجدت عليه بمزن المقل                فقل للأمازون أن يبخلا  

وحلّيت قلبيْ بنبع العسل                فقل لليالي امْطري حنظلا

وعلّق عليها بالقول ان "الصورة التي ترسمها من أسخف ما يمكن أن تتصوره مخيلة قوّال بسيط". وتساءل: "لماذا يجب أن تمحل البرازيل اذا كان الناظم قد غرس ورد الأمل بلبنان؟ وما هو الجمال الشعري في سقي الأمل بمزن المقل وبخل الأمازون؟".

رد أبو ماضي على هاني بعل في "السمير" بتاريخ 26 آذار 1941، فاتهمه بالتجني، لأنه "تناول هذه الابيات وعركها عركاً كما يعرك المرء بيده أوراق وردة ندية ثم يطرحها جانباً وهو يقول: أي جمال فيها". رد هاني بعل على الرد في جريدة "الزوبعة" الارجنتينية بتاريخ 15 حزيران 1941، فاعترف بموهبة أبو ماضي الشعرية، لكنه أنكر مقدرته على نقد الشعر الذي هو "ثقافة اختصاصية واسعة تقوم على علم غزير ودراسة طويلة وموهبة أخرى للنظر في المنظومات في ذاتها وليس للنظر في ما نقدر أو نتخيل ان الناقد اراد منها". والجدير ذكره ان هاني بعل هو الاسم المستعار للزعيم انطون سعادة.