|
||||
لا بدّ من كلمتين حول سيرته ونثره لأن الدقة كانت تعوز الدارسين في ذكرى مرور خمسين عاماً على رحيل الشاعر ايليا أبو ماضي، ليس اسهل من اعتمار قبعة اساتذة الطبخ في الفضائيات واتباع موضة نسخ ما قيل عن شعره وسيرته، مع رشّة خفيفة من الفلفل والبهار لتمويه بصمات النسّاخ. لكن الاضاءة على الجانب شبه المجهول في إنتاج أبو ماضي، أي النثر، اضافة الى اعادة النظر في بعض ما قيل عن سيرته، ستكونان محور هذه المقالة في يوبيله الذهبي، لأنهما مبرر كل كلمة جديدة تضاف الى سيل الدراسات والمقالات التي انهمرت على شعره وشخصه. قبل قراءة ما يتيسر من نثر أبو ماضي، لا بد من كلمتين حول سيرته، وخصوصاً ان دارسيه لم يكونوا دقيقين في تحديد بعض محطات حياته. ولد أبو ماضي في المحيدثة - بكفيا في 8 نيسان 1888. ثمة مراجع تفيد ان ولادته تمت في 21 أيار 1890. لكن تاريخ سفره من لبنان الى الاسكندرية عام 1901 للعمل في متجر خاله، اضافة الى إصداره باكورة دواوينه "تذكار الماضي" عام 1910، يعززان الاستنتاج أنه مولود في 1888، إذ لا يعقل أن يهاجر طفل من قرية لبنانية ليعمل في مدينة مصرية وهو في الحادية عشرة، ناهيك بإصداره ديواناً وهو في الحادية والعشرين. على ذكر الديوان، فإن أبو ماضي نشر معظم قصائده في بعض الصحف الصادرة في الاسكندرية والقاهرة، منها "العلم" و"الاكسبرس". وحشر الباحثون اسم مجلة "الزهور" الادبية التي أصدرها أنطون الجميّل وأمين تقي الدين في القاهرة، في لائحة الدوريات التي نشر فيها أبو ماضي قصائده خلال اقامته في الاسكندرية، من غير أن يكحّلوا عيونهم بصفحات أعدادها. ولو فعلوا ذلك، لتبيّن لهم ان قصيدة "لكن مصراً" التي دشّن بها مساهماته القليلة في "الزهور" بعث بها من الولايات المتحدة بعد عام من هجرته اليها. قبل متابعة بعض خطب الناثر أبو ماضي ومقالاته، لا بأس بالتنويه بأن الكاتب يغمز من قناة نعوم مكرزل صاحب جريدة "الهدى" ورئيس "حزب النهضة اللبنانية" الذي عارض بشدة عقد المؤتمر النيويوركي الذي دعا اليه صاحب "المرآة" نجيب دياب وعدد من الأدباء والصحافيين أمثال جبران. ناهيك بأن مكرزل اشتهر بنهجه السياسي المذهبي، كما هو بيّن من أعداد "الهدى" في تلك الحقبة. صدرت "السمير" نصف شهرية، فكانت مناسبة للناثر أبو ماضي كي يهتم بمقالاته، وبخاصة الافتتاحيات، بالقدر نفسه الذي اهتم من قبل بشعره. ليس من المبالغة القول، ان معظم افتتاحياته بدءاً من الباكورة، قطع أدبية متميزة، تجمع بين الأدب والفلسفة والسياسة. في افتتاحية العدد الاول الصادر بتاريخ 15 نيسان 1929، نقرأ العبارات الآتية: "قالت النفس: اعتزل. وقال الرفاق لا تعتزل. وللنفس صولتها النافذة. وللأصحاب دالّتهم التي لا تردّ... ثمانية شهور لم يتحرك فيها هذا القلم بنثر ولا نظم. وكأنما نفسي كانت هاجعة كالروض في الشتاء، لا طائر يصدح، ولا زهرة تنفح، حتى يجيء الربيع، فتسترجع الارض زينتها وحلاها، ثمانية شهور كانت كل لحظة منها كأنها ثمانية شهور... تلك هجعة لم تكن باختياري، ولكنها جاءت في وقتها وكانت نافعة. فلولاها لم يتسع أمامي المجال للتفكير في إصدار هذه المجلة... قد رجعت الى حومة الصحافة لأني أحسب كل يوم أنفقه في غير خدمة قومي وبلادي ولغتي ليس من عمري، بل أنا اعتبر الفناء في أمتي وجوداً، والوجود في غير أمتي فناء". وكرّت السبّحة، في 15 حزيران 1929، وتحت عنوان "نبي في غير وطنه" كتب أبو ماضي في الافتتاحية عن العالم اللبناني حسن كامل الصباح، الذي هو "مخترع قليل النظراء حتى في الوسط الاميركي". أما لماذا بقي مغموراً حتى كتابة الافتتاحية فلأنه "شرقي. وهذا يبرهن لنا فساد القول الشائع من ان العلم لا وطن له". بعد وفاة جبران كتب أبو ماضي عنه أكثر من مرة. قال في عدد 15 نيسان 1931 ان جبران الذي مات "كان أدبه إما دمعة تتألق فيها ابتسامة أو ابتسامة تترقرق فيها دمعة... نقول (مات) جرياً على العادة المصطلح عليها. اما الحقيقة فهي ان موت رجل كجبران ولادة". وفي "تقدمة" العدد الخاص بجبران والصادر في أول ايار 1931 قال أبو ماضي: "الى الشاعر الذي كان يلمح الفجر في حواشي الليل الداجي والربيع في الشتاء القاحل العاري... الى روح جبران ترفع "السمير" هذا العدد. وهذا أقل ما تكافئ به أديباً نسيج وحده كجبران كان الخط الذي يلتقي عنده الادبان الشرقي والغربي". وتحت عنوان "الإله الثاني" كتب أبو ماضي افتتاحية لعدد أول حزيران 1931، كأنها برسم النشر في دورية تصدر في أول شباط 2007. انتقد الاديب الزميل في هذه الافتتاحية الاميركيين الذين "اذا شادوا بناية فلا يقولون انها جميلة أو شاهقة الا بعد أن يقولوا انها كلفت كذا وكذا من الدولارات. واذا عرضوا صورة فنية فلا يذكرون قيمتها الفنية الا بعد ان يأتوا على قيمتها المادية كأن يقولوا انها بيعت بألوف الدولارات، وانها كانت في حوزة الغني المشهور فلان، لذلك نقول ان المدنية الاميركية، على ضخامتها وفخامتها، يعوزها قليل من الطمأنينة الروحية التي تغمر الشرق، كما يعوز الشرقيين قليل من النشاط في طلب المحسوسات والمرئيات الذي يملك على الاميركي مشاعره". كان أبو ماضي عازماً على تحويل "السمير" الى جريدة يومية، لكن وفاة "عمه" اضطرته الى تجميد إصدار مجلته ليتولى رئاسة تحرير "مرآة الغرب" لبضعة أشهر. خلال ذلك، حاول شراء الجريدة العريقة، لكن حماته افشلت محاولته، فشرب حليب السباع، وحوّل "السمير" من نصف شهرية الى يومية بدءاً من 2 تشرين الثاني 1936. وكالعادة، نجح في مشروعه الجديد، ليس فقط عبر تأمينه الاشتراكات والاعلانات التي حالت دون احتجابها، كما كانت حال معظم دوريات المهجر الاميركي الشمالي، بل ايضاً تحقيق التوازن بين الادب والسياسة. لكن نهج أبو ماضي في افتتاحياته ومقالاته "العقائدية"، المتميّز بالصلابة، اضافة الى سياسة جريدته العروبية الفلسطينية غير الخالية من النكهة الارثوذكسية، قد دفعاه الى الخوض في معارك اعلامية مع بعض اصحاب الدوريات الاخرى وبخاصة نعوم مكرزل صاحب "الهدى". ولحسن حظ القراء، تخطت المعارك شؤون السياسة وشجونها، لتشمل النقد الادبي والشعر. وعلى سبيل المثال، فإن أبا ماضي دخل على خط المعركة التي دارت بين الشاعر القروي والناقد هاني بعل في الصحف البرازيلية والارجنتينية. قرأ هاني بعل في جريدة "سورية الجديدة" بتاريخ 8 آذار 1941 الابيات الآتية للشاعر القروي المنشورة في ديوانه "الاعاصير": غرست بلبنان ورد الأمل فقل للبرازيل ان تمحلا وجدت عليه بمزن المقل فقل للأمازون أن يبخلا وحلّيت قلبيْ بنبع العسل فقل لليالي امْطري حنظلا وعلّق عليها بالقول ان "الصورة التي ترسمها من أسخف ما يمكن أن تتصوره مخيلة قوّال بسيط". وتساءل: "لماذا يجب أن تمحل البرازيل اذا كان الناظم قد غرس ورد الأمل بلبنان؟ وما هو الجمال الشعري في سقي الأمل بمزن المقل وبخل الأمازون؟". رد أبو ماضي على هاني بعل في "السمير" بتاريخ 26 آذار 1941، فاتهمه بالتجني، لأنه "تناول هذه الابيات وعركها عركاً كما يعرك المرء بيده أوراق وردة ندية ثم يطرحها جانباً وهو يقول: أي جمال فيها". رد هاني بعل على الرد في جريدة "الزوبعة" الارجنتينية بتاريخ 15 حزيران 1941، فاعترف بموهبة أبو ماضي الشعرية، لكنه أنكر مقدرته على نقد الشعر الذي هو "ثقافة اختصاصية واسعة تقوم على علم غزير ودراسة طويلة وموهبة أخرى للنظر في المنظومات في ذاتها وليس للنظر في ما نقدر أو نتخيل ان الناقد اراد منها". والجدير ذكره ان هاني بعل هو الاسم المستعار للزعيم انطون سعادة. |